سورة الحج - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


قال: {يا أيها الناس} أي الذين تقدم أول تلك أنه اقترب لهم حسابهم {اتقوا ربكم} أي احذروا عقاب المحسن إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبينه وقاية الطاعات.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما افتتحت سورة الأنبياء بقوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم} وكان وارداً في معرض التهديد، وتكرر في مواضع منها كقوله تعالى: {إلينا ترجعون} [الأنبياء: 35] {سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد} [الأنبياء: 37] {لو يعلم الذين كفروا حين يكفون عن وجوههم النار} [الأنبياء: 39] {ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك} [الأنبياء: 46] {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} [الأنبياء: 47] {وهم من الساعة مشفقون} [الأنبياء: 49] {كل إلينا راجعون} [الأنبياء: 93] {واقترب وعد الحق} [الأنبياء: 97] {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب} [الأنبياء: 104] إلى ما تخلل هذه الآي من التهديد، وشديد الوعيد، حتى لا تكاد تجد أمثال هذه الآي في الوعيد والإنذار بما في الساعة وما بعدها وما بين يديها في نظائر هذه السورة، وقد ختمت من ذلك بمثل ما به ابتدئت، اتصل بذلك ما يناسبه من الإعلام بهول الساعة وعظيم أمرها، فقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم} إلى قوله: {ولكن عذاب الله شديد} ثم اتبع ببسط الدلالات على البعث الأخير وإقامة البرهان {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} الآيات، ثم قال {ذلك بأن الله هو الحق} أي اطرد هذا الحكم العجيب ووضح من تقلبكم من حالة إلى حالة في الأرحام وبعد خروجكم إلى الدنيا وأنتم تعلمون ذلك من أنفسكم، وتشاهدون الأرض على صفة من الهمود والموت إلى حين نزول الماء فنحيي ونخرج أنواع النبات وضروب الثمرات {يسقى بماء واحد ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى} كما أحياكم أولاً وأخرجكم من العدم إلى الوجود وأحيا الأرض بعد موتها وهمودها، كذلك تأتي الساعة من غير ريب ولا شك، ويبعثكم لما وعدكم من حسابكم وجزائكم {فريق في الجنة وفريق في السعير} انتهى.
ولما أمرهم بالتقوى: علل ذلك مرهباً لهم بقوله: {إن زلزلة الساعة} أي التي تقدم التحذير منها في الأنبياء بدأ وختماً وما بين ذلك، أي شدة اضطرابها وتحركها العنيف المزيل للأشياء عن مقارها إزالة عظيمة، بما يحصل فيهما من الأصوات المختلفة، والحركات المزعجة المتصلة، من النفخ في الصور، وبعثرة القبور، وما يتسبب عن ذلك من عجائب المقدور، وقت القيام، واشتداد الزحام، وذلك لأن زلزل مضاعف زل إذا زال عن مقره بسرعة، ضوعف لفظه لتضاعف معناه؛ قال البغوي: الزلزلة والزلزال: شدة الحركة على الحال الهائلة- انتهى. وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول فيه {شيء عظيم} أي لا تحتمل العقول وصفه؛ قال ابن كثير: أي أمر كبير، وخطب جليل وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب- انتهى.
وهذا للزلزلة نفسها، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لا بد لكم من الحشر فيه إلى الله ليجازيكم على ما كان منكم، لا ينسى منه نقير ولا قطمير، ولا يخفى قليل ولا كثير، مما تطير له القلوب، ولا تثبت له النفوس، فاعتدوا وجاهدوا أعداءكم من الأهواء والشياطين.
ولما كان المراد بالساعة القيام وما والاه، جعل مظروفاً لذلك اليوم الذي هو من ذلك الوقت إلى افتراق الفريقين إلى داري الإبعاد والإسعاد، والهوان والغفران، فقال تعالى: {يوم ترونها} أي الزلزلة أو كل مرضعة، أضمرها قبل الذكر، تهويلاً للأمر وترويعاً للنفس {تذهل} أي تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، وهو العامل في {يوم} ويجوز أن يكون عامله معنى الكلام، أي تستعظمون جداً ذلك اليوم عند المعاينة وإن كنتم الآن تكذبون، ويكون ما بعده استئنافاً ودل بالسور على عموم تأثيره لشدة عظمته فقال: {كل مرضعة} أي بالفعل {عما أرضعت} من ولدها وغيره، وهي من ماتت مع أبنها رضيعاً، قال البغوي: يقال: مرضع، بلا هاء- إذا أريد به الصفة مثل حائض وحامل، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء- يعني: فيدل حينئذ أنها ملتبسة به {وتضع كل ذات حمل حملها} أي تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً، وهي من ماتت حاملاً- والله أعلم، فإن كل أحد يقوم على ما مات عليه، قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام- انتهى. ويؤيد أن هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما في الصحيحين وغيرهما: مسلم في الإيمان وهذا لفظه، والبخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رفعه: «يقول الله عز وجل: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك! والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها» الحديث والأحاديث في ذلك كثيرة، ومعارضها ضعيف، والمناسب أيضاً لما في آخر تلك من قوله: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: 97] وما تبعه أن هذه الزلزلة بعد القيام من القبور {يوم نطوي السماء} [الأنبياء: 104] {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] إلى قوله: {علمت نفس ما قدمت وأخرت} [الانفطار: 5] ويمكن أن يكون المراد هذا وما قبله لأن يوم الساعة طويل، فنسبة الكل إليها على حد سواء.
ولما كان الناس كلهم يرون الزلزلة، ولا يرى الإنسان السكر- إلا من غيره قال في الزلزلة {ترونها} وقال في {السكر}: {وترى الناس سكارى} أي لما هم فيه من الدهش والحيرة والبهت لما شاهدوا من حجاب العز وسلطان الجبروت وسرادق الكبرياء، ثم دل على أن ذلك ليس على حقيقته بقوله، نافياً لما يظن إثباته بالجملة الأولى: {وما هم بسكارى} أي من الخمر.
ولما نفى أن يكونوا سكارى من الخمر، أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة فقال: {ولكن عذاب الله} ذي العز والجبروت {شديد} فهو الذي وجب أن يظن بهم السكر، لأنه أذهب خوفه حولهم، وطير هوله عقولهم.
ولما أفهم العطف الآتي أن الناس قسمان، وأن التقدير: فإن منكم من يؤمن فبتقي فينجو من شر ذلك اليوم الذي اقتضت الحكمة إظهار العظمة فيه ليزداد حزب الله فرحاً، وحزب الشيطان غماً وترحاً، عطف عليه قوله: {ومن الناس} أي المذبذبين المضطربين {من} لا يسعى في إعلاء نفسه وتهذيبهاً فيكذب فيوبق بسوء أعماله، لأنه {يجادل في الله} أي في قدرة الملك الأعظم على ذلك اليوم وفي غير ذلك من شؤونه بعد أن جاءه العلم بها اجتراء على سلطانه العظيم {بغير علم} بل بالباطل الذي هو جهل صرف، فيترك اتباع الهداة النصحاء {ويتبع} بغاية جهده في جداله {كل شيطان} أي محترق بالشر مبعد باللعن.
ولما كان السياق لذم متبعه، أشار إلى أنه لا قصد له في اتباعه إلا الشر، لأنه لا لبس في أمره بصيغة المبالغة كما مضى في النساء ويأتي في الصافات، فقال: {مريد} أي متجرد للفساد لا شغل له غيره، فهو في غاية الضراوة عليه، قال البيضاوي: وأصله العرى {كتب} أي قضى وقدر على سبيل الحتم الذي لا بد منه، تعبير باللازم عن الملزوم {عليه} أي على ذلك الشيطان {أنه من تولاه} أي فعل معه فعل الولي مع وليه، باتباعه والإقبال على ما يزينه {فأنه يضله} بما يبغض إليه من الطاعات فيخطئ سبيل الخير.
ولما نفّر عن توليه بإضلاله لأن الضلال مكروه إلى كل أحد، بين أنه إضلال لا هدى معه أصلاً فقال: {ويهديه} أي بما يزين له من الشهوات، الحاملة على الزلات، إعلاماً بأنه إن كان له هدى إلى شيء فهو {إلى عذاب السعير}. ولما حذر الناس من ذلك اليوم، وأخبر أن منهم من يكذب، وعرف بمآله، فأفهم ذلك أن منهم من يصدق به فيكون له ضد حاله، وكان كثير من المصدقين يعملون عمل المكذبين، أقبل عليهم سبحانه إقبالاً ثانياً رحمة لهم، منبهاً على أنه ينبغي أن لا يكون عندهم نوع من الشك في ذلك اليوم لما عليه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، فقال دالاً عليه بالأمرين: {يا أيها الناس} أي كافة، ويجوز أن يراد المنكر فقط، وعبر بالناس الذي هو من أسفل الأوصاف لذلك، وإشارة إلى أن المنكر والعامل عمله- وإن كان مصدقاً- هم أكثر الناس، وعبر بأداة الشك إشارة إلى أن الذي يقتضيه الحال جزمهم به فقال: {إن} وبين أنه ما عبر به إلا للتوبيخ، لا للشك في أمرهم، بجعل الشرط ماضياً، ودل بكان وبالظرف على ما تمكن الريب منهم فقال: {كنتم في ريب} أي شك وتهمة وحاجة إلى البيان {من البعث} وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها سواء، استعظاماً لأن نقدر عليه {فإنا خلقناكم} بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء {من تراب} لم يسبق له اتصاف بالحياة {ثم من نطفة} حالها أبعد شيء عن حال التراب، فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال: {من ماء دافق} [الطارق: 6] وأصلها الماء القليل- قاله البغوي. وأصل النطف الصب- قاله البيضاوي. {ثم من علقة} أي قطعة دم حمراء جامدة، ليس فيها أهلية للسيلان {ثم من مضغة} أي قطعة لحم صغيرة جداً تطورت إليها النطفة {مخلقة} بخلقة الآدمي التمام {وغير مخلقة} أي أنشأناكم من تراب يكون هذا شأنه، وهو أنا ننقله في هذه الأطوار إلى أن يصير مضغة، فتارة يخلقها ويكون منها آدمياً، وتارة لا يخلقها بل يخرجها من الرحم فاسدة، أو تحرقها حرارته، أو غير مخلقة تخليقاً تاماً بل ناقصاً مع وجود الروح كشق الذي كان شق آدمي، وسطيح الذي كان علواً بلا سفل ونحوهما {لنبين لكم} كمال قدرتنا، وتمام حكمتنا، وأن ذلك ليس كائناً عن الطبيعة، لأنه لو كان عنها لم يختلف، فدل اختلافه على أنه عن فاعل مختار، قادر قهار، وحذف المفعول إشارة إلى أنه يدخل فيه كل ما يمكن أن يحيط به العقول.
ولما كان التقدير: فنجهض منه ما لا نشاء إتمامه، عطف عليه قوله: {ونقر في الأرحام} أي من ذلك الذي خلقناه {ما نشاء} إتمامه {إلى أجل مسمى} قدرناه لإتمامه ما بين ستة أشهر إلى ما نريد من الزيادة على ذلك، بحسب قوة الأرحام وضعفها، وقوة المخلقات وضعفها وكثرة ما تغتذيه من الدماء وقلته، وزكائه وخبثه، إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا بارئها، جلت قدرته، وتعالت عظمته، وأما ما لم نشأ إتمامه فإن الأرحام تمجه بقدرتنا وتلقيه دون التمام أو تحرقه فيضمحل {ثم نخرجكم} بعد ذلك {طفلاً} أي في حال الطفولة من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر وجميع الحواس، لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم، وعظم أجسامكم، وهو يقع على جميع، وعبر به دونه للتساوي في ضعف الظاهر والباطن.
ولما ذكر أضعف الضعف ذكر أقوى القوة عاطفاً له عليه لما بينهما من المهلة بأداة التراخي فقال: {ثم} أي نمد أجلكم {لتبلغوا} بالانتقال في أسنان الأجسام فيما بين الرضاع، إلى حال اليفاع، إلى زمان الاحتلام، وقوة الشباب والتمام {أشدكم} أي نهاية كل شدة قدرناها لكل واحد منكم {ومنكم من يتوفى} قبل ما بعد ذلك من سن الشيخوخة {ومنكم من يرد} بالشيخوخة، وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه مع استبعاده لولا تكرر المشاهدة عند الناظر لتلك القوة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط {إلى أرذل العمر} وهو سن الهرم فينقص جميع قواه {لكيلا يعلم}.
ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة، أثبت {من} الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم، فربما بات الإنسان في غاية الاستحضار لما يعلم والحذق فيه فعاد في صبيحة ليلته أو بعد أيام يسيرة جداً من غير كبير تدريج لا يعلم شيئاً، وأفهم إسقاط حرف الانتهاء أنه ربما عاد إليه علمه، وربما اتصل جهله بالموت بخلاف ما مضى في النحل فقال: {من بعد علم} كان أوتيه {شيئاً} بل يصير كما كان طفلاً في ضعف الجواهر والأعراض، لتعلموا أن ذلك كله فعل الإله الواحد المختار، وأنه لو كان فعل الطبيعة لازداد بطول البقاء نمواً في جميع ذلك، وقد علم- بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق- قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات، والكون على حال الرفات.
ولما تم هذا الدليل على الساعة محكم المقدمات واضح النتائج، وكان أول الإيجاد فيه غير مشاهد فعبر عنه بما يليق به، أتبعه دليلاً آخر محسوساً، وعطفه على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله: تجدون أيها الناس ما ذكرناه في أنفسكم، فقال: {وترى} فعبر بالرؤية {الأرض} ولما كان في سياق البعث، عبر بما هو أقرب إلى الموت فقال: {هامدة} أي يابسة مطمئنة ساكنة سكون الميت ليس بها شيء من نبت، ولعله أفرد الضمير توجيهاً إلى كل من يصلح أن يخاطب بذلك {فإذا} أي فننزل عليها ماء من مكان لا يوجد فيه ثم ينزل منه إلا بقدرة عظيمة وقهر باهر، فإذا {أنزلنا} بما لنا من العظمة {عليها الماء اهتزت} أي تحركت بنجوم النبات اهتزاز الحي، وتأهلت لإخراجه؛ قال الرازي: والاهتزاز: شدة الحركة في الجهات المختلفة. {وربت} أي انتفخت، وذلك أول ما يظهر منها للعين وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشئ عن التراب والماء {وأنبتت} بتقديرنا {من كل زوج} أي صنف عادلناه بصنف آخر جعلناه تمام نفعه به {بهيج} أي مؤنق من أشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها، ومنافعها ومقاديرها رائقة المناظر، لائقة في العيون والبصائر، قال الرازي: فكما أن النبات يتوجه من نقص إلى كمال، فكذلك الآدمي يترقى من نقص إلى كمال، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعد له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود، أي السعيد منه في دار السلام مبراً عن عوارض هذا العالم- انتهى.


ولما قرر سبحانه هذين الدليلين، رتب عليهما ما هو مطلوب والنتيجة فقال على طريق التعليل: {ذلك} أي الذي تقدم من الأمر بالتقوى، والترهيب من جلال الله بالحشر، والاستدلال عليه بالتصرف في تطوير الإنسان والنبات إلى ما في تضاعيفه من أنواع الحكم وأصناف اللطائف {بأن} أي بسبب أن تعلموا أن {الله} أي الجامع لأوصاف الكمال {هو} أي وحده {الحق} أي الثابت أتم الثبات، بحيث يقتضي ذلك أنه يكون كل ما يريد، فإنه لا ثبات مع العجز {وأنه يحيي الموتى} أي القادر على ذلك بأنه- كما سيأتي- هو العلي الكبير {وأنه على كل شيء} من الخلق وغيره {قدير} {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] {وأن الساعة} التي تقدم التحذير منها، وهي وقت حشر الخلائق كلهم {آتية لا ريب فيها} بوجه من الوجوه لما دل عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله، وهو حكيم فلا يخلف ميعاده، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب {وأن الله} لما له من الجلال والحكم {يبعث} بالإحياء {من في القبور} لحضوره والفصل بينهم فيها في كل ما اختلفوا فيه لأن ذلك من العدل الذي أمر به، وبه يظهر كثير من صفاته سبحانه أتم الظهور، والحاصل أن المراد أنه سبحانه قال ما تقدم وفعل ما ذكر من إيجاد الإنسان والنبات في هذه الأطوار ليعلم أنه قادر على هذه الأمور وعلى كل شيء {ومن} أي فمن الناس الذين كانوا قد وقفوا عن الإيمان قبل هذا البيان من آمن عند سماع هذه القواطع، ومن {الناس} وهم ممن اشتد تكاثف طبعه {من يجادل} أي بغاية جهده {في الله} أي في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل لهه ولا خفاء فيه {بغير علم} أتاه عن الله على لسان أحد من أصفيائه أعم من أن يكون كتاباً أو غيره {ولا هدى} أرشده إليه من عقله أعم من كونه بضرورة أو استدلال {ولا كتاب منير} صح لديه أنه من عند الله، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل {ثاني عطفه} أي رخي البال معرضاً متكبراً متماثلاً لاوياً عنقه لذلك كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً} [لقمان: 7] والعطف في الأصل الجانب وموضع الميل.
ولما دل السياق على أنه أكثف الأقسام طبعاً، عبر عن قصده بقوله: {ليضل} أي غيره {عن سبيل الله} إفهاماً لذلك، لأن هذا لا يقصده عاقل، فالقسم الأول تابع ضال، وهذا داع لأهل الضلال، هذا على قراءة الضم للجمهور، وعلى قراءة الفتح لابن كثير وأبي عمرو ورويس عن يعقوب بخلاف عنه من ضل، تكون من باب التهكم كما تقدم غير مرة، أي إنه من الحذق بحيث لا يذهب عليه أن هذا ضلال، فما وصل إليه إلا بقصده له.
ولما ذكر فعله وثمرته، ذكر ما أعد له عليه فقال: {له في الدنيا خزي} اي إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه بتنعيمه «حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه» {ونذيقه} أي بما لنا من العظمة {يوم القيامة} الذي يجمع فيه الخلائق بالإحياء بعد الموت {عذاب الحريق} أي بجعله يحس بألم العذاب بالحريق كما يحس الذائق بالشيء كما أحرق قلوب المهتدين بجداله بالباطل، ويقال حقيقة أو مجازاً: {ذلك} أي العذاب العظيم {بما} أي بسبب ما {قدمت يداك} أي بعملك، ولكنه جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد لأنها آلة أكثر العمل، وإضافة ما يؤدي إليهما أنكأ {وأن} أي وبسبب أن {الله} أي الذي له الكمال كله {ليس بظلام} أي بذي ظلم ما {للعبيد} ولو ترككم بغير ذلك لكان في مجاري عاداتكم ظلماً أولاً بتسوية المحسن بالمسيء، وثانياً بترك الانتصار للذين عادوك فيه وأذيتهم من أجله، ويجوز أن تكون الصيغة للمبالغة لتفهم أنه لو تركه لكان الظلم، وذلك في غاية البعد عن حكمته و... نفي أصل الظلم من آياته الباهرة.


ولما بين قسمي المصارحين بالكفر الكثيف والأكثف صريحاً. وأفهم المؤمن المخلص، عطف على ذلك المذبذب فقال: {ومن الناس} ولذلك عبر بالناس الذي مدلولة الاضطراب والتردد دون أن يضمر {من يعبد الله} أي يعمل على سبيل الاستمرار والتجدد بما أمر به الإله الأعظم من طاعته {على حرف} فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره، لا استقرار له، وكالذي على طرف من العسكر، فإن رأى غنيمة قر، وإن توهم خوفاً طار وفر، وذلك معنى قوله: {فإن أصابه خير} أي من الدنيا {اطمأن به} أي بسببه، وثبت على ما هو عليه {وإن أصابته فتنة} أي مصبية ولو قلت- بما يشير إليه التأنيث- في جسده أو معيشته يختبر بها ويظهر خبأة للناس {انقلب على وجهه} لتهيئه للانقلاب بكونه على شفا جرف فسقط عن ذلك الطرف من الدين سقوطاً لا رجوع له بعد إليه ولا حركة له معه، فإن الإنسان مطبوع على المدافعة بكل عضو من أعضائه عن وجهه فلا يمكن منه إلا بعد نهاية العجز، والمعنى أنه رجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر أو الشك رجوعاً متمكناً، وهذا بخلاف الراسخ في إيمانه، فإنه إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء حمد وصبر، فكل قضاء الله له خير.
ولما كان انقلاب هذا مفسداً لآخرته بما ناله من الوزر، وغير نافع له في استدراك ما فاته من الدنيا، كانت فذلكة ذلك قوله: {خسر الدنيا} أي بسبب أن ذلك لا يرد ما فاته منها ويكون سبب التقتير عليه وذهاب بركته {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66] «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» {والآخرة} بفوات أجر الصبر وحصول إثم الجزع: ثم عظم مصيبته بقوله: {ذلك} أي الأمر العظيم {هو} أي لا غير {الخسران المبين} ورى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء ثم بين هذا الخسران الذي رده إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفي بقوله: {يدعوا} أي يعبد حقيقة أومجازاً مع التجدد والاستمرار بالاعتماد على غير الله ومنابذة {وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]. ولما كان كل ما سوى الله دونه، نبه على ذلك بقوله: {من دون الله} أي عن أدنى رتبة من رتب المستجمع لصفات الكمال.
ولما كان المتضي للعبادة إنما هو الفعل بالاختيار، وأما الفعل الذي يقتضيه الطبع والقسر عليه فلا عبرة به في ذلك، فإنه لا قدرة على الانفكاك عنه فلا حمد لفاعله، نبه على ذلك بقوله: {ما لا يضره} أي بوجه من الوجوه حتى ولا بقطع النفع إن كان يتصور منه.
ولما قدم الضر لأنه من الأعذار المقبوله في ارتكاب الخطأ، أتبعه النفع قطعاً لكل مقال فقال: {وما لا ينفعه} بوجه من الوجوه ولا بترك الضر إن وجد منه، ولو أسقطت ما من الثاني لظن أن الذم يشترط فيه انتفاء الضر والنفع معاً حتى أن من ادعى ما انتفى عنه أحدهما لم يذم {ذلك} أي الفعل الدال على أعظم السفه وهو دعاء شيء انتفى عنه القدرة على النفع، أو شيء انتفى عنه القدرة على الضر {هو} أي وحده {الضلال البعيد} عن الحق والرشاد الذي أوصل إلى فياف مجاهل لا يتأتى الرجوع منها، وذلك لأن الأول لو ترك عبادته ما قدر على منع إحسانه، والثاني لو تقاداه ما وصل إلى نفعه ولا يترك ضره، فعبادتهما عبث، لأنه استوى فعلها وتركها.
ولما كان الإحسان جالباً للانسان، من غير نظر إلى مورده، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، بين أن ما قيل في جانب النفع إنما هو على سبيل الفرض فقال: {يدعوا} ولما كان ما فرض أولاً فيما عبر عنه بما قد يكون غير عاقل، فيكون ما صدر منه لعدمه العقل، أزال هذا الإبهام بقوله: {لمن} أي زاعماً أن من {ضره} ولو بعبادته الموجبة لأعظم الشقاء {أقرب من نفعه} الذي يتوقع منه- إله.
ولما كانت الولاية الكاملة لا تنبغي إلا لمن يكون توقع النفع منه والضر على حد سواء، لقدرته على كل منهما باختياره، وكان العشير لا يصلح إلا إن كان مأمون العاقبة، وكان هذا المدعو إن نظر إليه في جانب الضر وجد غير قادر عليه، أو في جانب النفع فكذلك، وإن فرض توقع نفعه أو ضره كان خوف ضره أقرب من رجاء نفعه، استحق غاية الذم فلذلك استأنف تعالى وصفه بقوله معبراً في ذمه بالأداة الموضوعة لمجامع الذم: {لبئس المولى} لكونه ليس مرجو النفع كما هو مخشي الضر {ولبئس العشير} لكونه ليس مأمون الضر فهو غير صالح لولاية ولا لعشرة بوجه.
ولما أفهم ما تقدم أن هذا الإله المدعو إليه قادر على كل من النفع والضر بالاختبار، وأن تجويز الوقوع لكل منهما منه على حد سواء، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: {إن الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص {يدخل الذين آمنوا} برسله وما دعت إليه من شأنه {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان بعد ما ضرهم في الدنيا بأنواع المعايب، تطهيراً لهم مما اقترفوه من الزلات، وأهوتهم إليه الهفوات {جنات تجري من تحتها} أي من أيّ مكان أردت من أرضها {الأنهار} ولما كان هذا أمراً باهراً دل على سهولته بقوله: تصريحاً بما أفهمه السياق من وصف الاختيار: {إن الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يفعل ما يريد} من كل نفع وضر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6